من أمريكا إلى الربع الخالي ليعيش مع بدو البدو
عني بعض الغربيين بدراسة حياة العرب منذ قرون، متأثرا بعضهم بكتاب "ألف ليلة وليلة"، ومتأثرا آخرون بما قرأوه من كتابات أسلافهم المستشرقين. وكانت صحراء الربع الخالي من الأماكن التي شغلت ذهن الغربيين، وحرص كثير منهم على عبورها، ولكن لم يتحقق لهم ذلك حتى جاء برترام توماس فعبرها، وكان أول غربي يعبرها، ثم تلاه بأشهر الرحالة الشهير جون فيلبي، ثم تبعه بعد فترة وليفرد ثيسجر. وكان صاحبنا اليوم واحدا من الغربيين الذين عشقوا هذه الصحراء وأهلها فجاء من أقاصي العالم الجديد، من الولايات المتحدة، جاء هذا الرجل ليعيش في الربع الخالي، ويدرس تاريخ وطبيعة حياة قبيلة آل مرة، ويعيش بينهم محفوفا برعايتهم وعنايتهم وكرمهم ما أثر فيه تأثيرا كبيرا، وتغيرت النظرة التي قرأها عن بدو السعودية، فأحبهم وأحب من خلالهم الإسلام، وهذا ما جعله يفكر في اعتناق الإسلام، فتعلم الفاتحة على يد الشيخ طالب بن راشد بن لاهوم الشريم المري، وبعد ذلك بسنوات تقدم هذا الأمريكي إلى شيخ الأزهر رسميا في السادس من ربيع الأول عام 1424هـ وأعلن إسلامه. ذلك هو الدكتور دونالد بأول كول، الذي أصبح اسمه بعد إسلامه عبد الله طالب، وذلك نسبة للشيخ طالب ا
من جامعة كاليفورنيا إلى الربع الخالي:
قدم دونالد بأول كول بين عامي 1968 و1970 من جامعة كاليفورنيا ــ بيركلي إلى المملكة لإعداد بحثه الخاص برسالة الدكتوراه في علم الإنسان، وقضى 18 شهرا مع قبيلة آل مرة في المناطق الصحراوية الشرقية والجنوبية الشرقية من السعودية، وعلى حد قوله فإنه كان في معظم الأوقات ضيفا مستديما في بيت علي بن سالم بن الكربي من فخذ آل عازب من آل مرة، كما كان ابنه الكربي بن علي دليلا مع دونالد، وعنه يقول: "لقد كان من المستحيل إنجاز هذا البحث لولا مساعدة وصداقة الأخ الكربي بن علي الذي قادني عبر صحاري المملكة وعرفني على آل مرة. كان الكربي شابا في الثلاثينات .. وقد رحب كأخ عزيز وساعدني على تعلم اللهجة المرية، وقدمني إلى المئات من زملائه من رجال القبائل، وأنا أدين لأبيه بشكل خاص ولأعمامه وأخواله باطلاعي على التسلسل العائلي، والقبلي وبإخباري القصص الشيقة حول الغزوات التي كانت تحدث في الماضي بين القبائل، وبتثقيفي فيما يختص بتقاليد العرب الرحل. كما قام كل من شقيقه مرزوق وابن عمه حران بن محمد وكلاهما من أصحاب الشعور الطويلة بتلقيني ركوب الجمال، واصطحابي معهما في رحلات رعي الإبل وتعليمي معظم ما تعلمته عن الصحراء. وبما أنني أقمت مع فخذ آل عازب، فقد أصبحت أعرفهم تمام المعرفة، لكنني قمت بزيارة الفخوذ الأخرى وأقمت بضيافة أمير آل مرة طالب بن راشد بن شريم وابنه راشد وابن أخيه فيصل بن محمد، كان استقبال آل مرة لي استقبالا حارا ومع مرور الوقت أصبحت جميع القبائل الأخرى تعرف كل شيء عني إذ إن الأخبار في الصحراء تنتشر بسرعة، أعطوني اسم عبد الله ونسبوني إلى الأمير طالب مدعين أني ابنه، قالوا إني جئت لأعرب نفسي، وهذا أمر صحيح كما راحوا يلقنونني طرق اللياقة العربية كي أبدو وكأني من أبناء القوم وشريف بين الشرفاء، لقد أمضيت أسعد فترة في حياتي معهم، ولن يسعني أبدا إلا أن أرد لهم كل الحب الأخوي الذي لمسته منهم وكل ما تعلمته منهم".
بدو البدو:
أنهى دونالد بأول كول عمله الميداني ورحلته الطويلة مع آل مرة ليعود إلى بلاده ويكتب بحثه للدكتوراه، وتم نشر هذا العمل عام 1395هـ/ 1975 باللغة الإنجليزية ثم ترجم أخيرا وظهرت طبعته العربية الأولى عام 2004 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر تحت عنوان "بدو البدو، حياة آل مرة في الربع الخالي". ويقع الكتاب في 211 صفحة ويتكون من سبعة فصول هي:
1ـ مقدمة البدو الرعاة في الشرق الأوسط آل مرة.
2ـ البيئة الأرض، الحيوانات، والمهارات الخاصة، ديرة آل مرة، الربع الخالي، المياه، القطعان، الإيقاع الموسمي للرعي، الفصول أو المواسم، الخريف، الهجرة إلى مراعي الشتاء، الربيع، الصيف، مهارات المعرفة الخاصة بالبدو.
3ـ البيت، الزواج والطلاق، الحياة الأسرية.
4ـ التقسيمات القبلية: الفخذ، القبيلة، القيادات القبلية.
5ـ آل مرة والمجتمع الكبير.
6ـ القيم الإسلامية في المجتمع: الإسلام، النهضة الدينية وإنشاء الدولة السعودية، الإخوان، الإسلام والبدو اليوم.
7ـ آل مرة والعالم المعاصر: النفط وتغير المجتمع العربي السعودي، تحضير البدو، مشروع الملك فيصل، الاستيطان العفوي، مواقف آل مرة تجاه التوطين، التغيرات التي طرأت على عمليات الترحال للرعي، ما التغيرات التي أدخلها البدو على أنشطتهم.
إضافة إلى المراجع التي اعتمد عليها، وملحق بالصور التي التقطها خلال إقامته وتجواله مع آل مرة.
لقطات من الكتاب:
بعدما يتحدث المؤلف في مقدمته عن الترحيب الذي وجده من الشيخ طالب بن راشد بن شريم وأبناء عمومته، والمعلومات التي أفاده بها راشد بن طالب عن تاريخ القبيلة وشجرة العائلة يقول: "كانوا يجعلونني أردد تلك الأسماء كي أحفظها وقد أدهشتني الطريقة الصريحة والمباشرة والودية التي كانوا يتبعونها في التعريف عن أنفسهم وكانوا يضحكون طيلة الوقت ويمازحونني ويمازحون البعض، وما لمسته من ترحيب وصداقة جاء على عكس الوصف الذي كنت قد قرأته حول بدو السعودية على أنهم متعصبون وصارمون من ذوي الشعور الطويلة وحملة الخناجر الذين لا يقدرون إلا القليل من الأشياء الرفيعة في الحياة، كما جاء على عكس ما وصفت به منطقة الربع الخالي، الصحراوية التي يسكنها آل مرة على أنها أرض الجنون والموت وكان آل مرة يرددون دوما أنه: بإمكان المرء أن يجد كل شيء في الربع الخالي أفضل الإبل وحليب الناقة اللذيذ والصيد الوفير، والرمل النظيف، والهواء النقي، وحيث يعيش الجميع كأخوة. كانوا يتمتعون ــ أي آل مرة ــ بما يمكن تسميته بالتواضع الارستقراطي الذي كان ظاهرا في أعمالهم وأحاديثهم، فهم يرفضون العيش في المدينة لأنها ملوثة ماديا واجتماعيا، ويفضلون الصحراء حيث بإمكانهم الحصول على حياة نقية ونظيفة كما يقولون".
وعندما تحدث عن الربع الخالي قال "ويظن بعض سكان المملكة العربية السعودية وكذلك بعض الأجانب أن الربع الخالي يعني بالفعل أنه خال من كل شيء، ويؤكد كل من ديكسون وثيسجر أن البدو الذين تعرفوا عليهم لم يسمعوا باسم الربع الخالي من قبل ما دعاهم للتفكير بأن هذا الاسم كان يستخدم فقط من قبل سكان المدن الذين يجهلون كل شيء عن حياة الصحراء، ويخافون من تلك المنطقة بحجة أنه بإمكان الجن والشياطين فقط العيش فيها". وذكر أنه في عام 1968 و1969 توفر المرعى وتحسنت صحة الإبل وزاد عدد الغزلان في الربع الخالي كانت تعج فيما مضى بالحيوانات البرية مثل الغزلان والأبقار الوحشية وطيور النعام.
اقتفاء الأثر واستعانة الشرطة بهم
وعند حديث المؤلف عن مهارات المعرفة الخاصة بالبدو ذكر أن سكان المدن والقرى في الجزيرة العربية يضربون الأمثال بفطنة البدو ومهاراتهم وقدرتهم على العيش في الصحراء، ويعتبرون بعض مواهبهم حاسة سادسة يفتقر إليها أهل المدن ثم يورد المؤلف بعض مهارات البدو فيقول: "وترتبط معظم مهارات البدو ومعرفتهم بشكل مباشر بأنشطة الرعي التي تتطلب في آن واحد دقة الملاحظة ومعرفة دقيقة وشاملة بالميزات الجغرافية والنباتات الصحراوية، والحيوانات ويتمتع البدوي المتوسط بمعرفة عميقة بالتسلسل الأسري، كما يمكنه إلقاء الأشعار والتحدث عن التقاليد العربية لساعات طويلة". ثم يذكر أن سكان الربع الخالي أكثر البدو معرفة بهذه الأمور وعن قدرة آل مرة على اقتفاء الأثر يقول: "ويشتهر آل مرة بقدرتهم على اقتفاء الأثر فهم يستطيعون أن يميزوا بكل سهولة بين أثر الإنسان وأثر الحيوان على رمال الصحراء. إذ إن جميع أفراد البيت الواحد يعرفون تمام المعرفة أثر أقدام كل واحد من إبلهم وأثر أقدام إبل أقربائهم بل يمكن لأي من الشباب أو الراشدين أن ينظر إلى مجموعة من آثار الأقدام ويحدد آثار أقدام إبله من بينها، وتلك هي مهارة مفيدة تنفع عند البحث عن الإبل الضائعة أو عن البيت الذي انتقل إلى مكان آخر أثناء غياب أحد أفراده.
يمكن لأي فتى أو فتاة تحديد أثر كل حيوان يعيش في الصحراء العربية، وعند بلوغهم سن المراهقة يصبح بإمكانهم تحديد الوقت الذي مضى على وجود الأثر وعدد الحيوانات أو الأشخاص والميزات الخاصة بالأفراد، على سبيل المثال باستطاعتهم تحديد ما إذا كان الأثر عائدا لامرأة أم رجل، أو إذا كان صاحب الأثر عجوزا أم شابا وإذا كان يخص امرأة باستطاعتهم تحديد ما إذا كانت حاملا أم لا، كما بإمكانهم إعطاء النوع نفسه من المعلومات بالنسبة للإبل. بسبب هذه المهارة كانت مراكز الشرطة الرئيسة في السعودية تستخدم حتى وقت قريب أفراد آل مرة في مهمة اقتفاء الأثر، فعند حصول جريمة ما، يتوجه مقتفي الأثر إلى مسرح الجريمة ويعاين آثار الأقدام في المنطقة، من ثم يذهب إلى سوق المدينة أو القرية لمراقبة أقدام الأشخاص الذين يرتادونه، وقد نجح العديد منهم في حل لغز الجريمة بهذه الطريقة، كما أن شهادتهم في المحكمة توازي شهادة الشاهد العيان".